فصل: باب إذا وقف أرضاً ولم يبيّن الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المتواري على أبواب البخاري



.كتاب الوصايا:

.باب الوصايا:

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وصية الرجل مكتوبة عنده» وقول الله عز وجل: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} [البقرة: 180].
فيه ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة».
وفيه عمرو بن الحارث ختن النبي صلى الله عليه وسلم أخو جويرية بنت الحارث: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شاة، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة.
وفيه عبدالله بن أبي أوفى: قيل له: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا. فقلت: كيف كتب على الناس الوصية، وأمر بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله.
وفيه عائشة: ذكر عندها أن عليّا- رضي الله عنه- كان وصياً. فقالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري، فدعا بالطست. فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه مات. فمتى أوصى إليه.؟
قلت: رضي الله عنك! الأحاديث كلها مطابقة إلا حديث عمرو بن الحارث. فليس فيه وصية. والصدقة المذكورة يحتمل أن تكون قبله في حديثه. ويحتمل أن يكون موصى بها. ولهذا الاحتمال أدخلها في الترجمة. والله تعالى أعلم.

.باب تأويل قوله: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء: 12]

ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. وقول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] فإذا الأمانة أحق من تطوع الوصية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى». وقال ابن عباس: لا يوصى العبد إلا بإذن أهله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العبد راع في مال سيده».
فيه حكيم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثلثاً. ثم قال لي: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه. ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له. وكان كالذي يأكل ولا يشبع. واليد العليا خير من اليد السفلى» فقلت: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً، ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبله منه ثم عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله. فقال: يا معشر المسلمين! إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي.
فيه ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيّته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته- حسبته أنه قال- الرجل راع في مال أبيه».
قلت: رضي الله عنك! إن قيل: ترجم على تقديم الدين على الوصية، فما وجه ذكر حديث العبد، وحديث حكيم. قلنا: أما حديث العبد فأصل يندرج تحته مقصود الترجمة، لأنه لما تعارض في ماله حقه وحق السيد، قدم الأقوى وهو حق السيد، وجعل العبد مسئولاً عنه مؤاخذاً بحفظه. وكذلك حق الدين لما عارضه حق بالوصية. والدين واجب والوصية تطّوع وجب تقديمه. أما حديث حكيم فيحتمل مطابقته وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم زهده في قبول العطية. وجعل يد آخذها اليد السفلى- تنفيراً عن قبولها. ولم يرد مثل هذا في تقاضي الدين. فالحاصل أن قابض الوصية يده السفلى. وقابض الدين استيفاء لحقه، إما أن تكون يده العليا لأنه المتفضل، وإما أن تكون يده السفلى. هذا أقل حاليه فتحقق تقديم الدين على الوصية بذلك. والوجه الآخر من المطابقة ذكره المهلب، وهو أن عمر- رضي الله عنه- اجتهد أن يوفيه حقه في بيت المال، وبالغ في خلاصه من عهدته. وهذا ليس ديناً، ولكن فيه شبهة بالدين لكونه حقا في الجملة. والوجه الأول أقوى في مقصود البخاري عند الفطن. والله أعلم.

.باب هل ينتفع الواقف بوقفه:

وقد اشترط عمر- رضي الله عنه- لا جناح على من وليه أن يأكل وقد يلي الواقف وغيره. وكذلك كل من جعل بدنةً أو شيئاً لله، فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره، وإن لم يشترط.
فيه أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنه فقال له: «اركبها». فقال: يا رسول الله، إنها بدنة. فقال- في الثالثة أو في الرابعة: «اركبها ويلك» أو: «ويحك».
قلت: رضي الله عنك! بنى البخاري- رحمه الله- في مطابقة حديث عمر للترجمة أن المخاطب يدخل في خطابه، وهو أصل مختلف فيه. ومالك- رحمه الله- في مثل هذا يحكم بالعرف، حتى يخرج غير المخاطب أيضاً من العموم لقرينة عرفية. كما إذا أوصى بمال للمساكين، وله أولاد، فلم يقسم حتى افتقر أولاده. فابن القاسم يمنع الأولاد وإن كانوا مساكين، لأن العرف في الإطلاق الأجانب. ولمطرف أنهم يعطون. ولابن الماجشون أنهم يعطون وإن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا. ولا يعطون إذا كانوا يوم الوصية مساكين. ولو وقف على المساكين فافتقر أولاده فلم يختلف قولهم أن يعطون بالمسكنة، ولكن قال: يجب إدخال الأجانب معهم، لئلا يندرس الوقف، ويكتب على الأولاد كتاباً أنهم بالمسكنة العامة قبضوا، لا بخصوص القرابة.
وشذت قاعدته هذه على كثير من أهل العصر. فقارب مشايخهم الصواب وأبعد غيرهم غاية الإبعاد. والله الموفق.

.باب قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} إلى قوله: {نصيباً مفروضاً} [النساء: 6] وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم، وما يأكل منه بقدر عمالته:

فيه ابن عمر: تصدق عمر بماله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقال له ثمغ. وكان نخلاً فقال عمر: يا رسول الله، إني استنفدت مالاً، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره». فتصدق به عمر. فصدقته تلك في سبيل الله، وفي الرقاب، والمساكين، والضيف، وابن السبيل، ولذي القربى. ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يؤكل صديقه غير متموّل به.
وفيه عائشة رضي الله عنها: {من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} قالت: أنزلت في والي اليتيم أن يصيب من ماله إذا كان محتاجاً بقدر ماله بالمعروف.
قلت: رضي الله عنك! لا يطابق حديث عمر مقصود الترجمة، لأن عمر رضي الله عنه هو المالك لمنافع وقفه، من شاء فله ذلك. ولا كذلك الموصى على أولاده، فإنهم إنما يملكون المال بقسمة الله وتمليكه، لا حقّ لمالكه فيه بعد موته. فكذلك كان المختار أن وصيّ اليتيم ليس له الأكل من ماله إلا أن يكون فقيراً فيأكل. ومختلف في قضائه إذا أيسر. والله أعلم.

.باب إذا وقف أرضاً ولم يبيّن الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة:

فيه أنس: كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة مالاً من نخل. وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء. وكانت مستقبلة المسجد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس لما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء. وإنها صدقة لله- عز وجل- أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها حيث أراك الله. فقال: بخ، ذلك مال رابح- أو رايح- وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال: أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وفيه ابن عباس: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أمه توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإنّ لي مخرافاً. فأنا أشهدك أني تصدقت به عنها.
قلت: رضي الله عنك! الوقف لازم بالبيّنة، واللفظ المشار به إلى المقصود فقد يتلفّظ باسمه العلم وبحدوده. وقد يتلفظ باسمه المتواطئ خاصة. وقد يذكر العلم ولا يذكر المحدودية. فبيرحاء علم حائط بعينه، ولم يذكر حدوده. والمخراف: الحائط. وقد ذكره منكراً متواطئاً لكنّه قصد فكأنما أشار إليه بلفظه مطابقاً لنيّته، وكلاهما جائز ولازم له ديناً. لكن إذا أشهد احتاج في المتواطئ إلى ذكر الاسم العلم زيادة على ذلك، أو الحدود. وهذا كله بعد اللزوم. وترجمة البخاري مطابقة صحيحة، وانتقدها المهلب فقال: إن كان الوقف غير ذي اسم يعرف، فلا يجوز حتى يذكر الحدود. قال: ولا خلاف في هذا ووهم، بل لا خلاف فيما إذا أراده البخاري- والله أعلم- لأنه إنما تعرض لجواز الوقف. ولقد ثبت أن الوقف على هذه الصورة لازم له. ولو استفتى من وقف بهذه الصيغة المنكرة لفظاً المتعين مقصودها نيّة، هل يجب عليه تنفيذ الوقف لألزمناه ذلك، وأوجبنا عليه الإشهاد بصيغة دالة بنصّ أو ظاهر.

.باب إذا وقف جماعة أرضاً مشاعاً فهو جائز:

فيه أنس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد، فقال، يا بني النجّار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: لا والله يا رسول الله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل.
قلت: رضي الله عنك! جوّد البخاري- رحمه الله- في الترجمة. وإنما عدل عن قوله: إذا وقف المشاع، لئلا يدخل فيه أحد الشركاء حصته. ومالك- رحمه الله- لا يمضيه على الشريك إن كانت لا تنقسم جبراً لضرر الشريك الآخر بالحبس. فالترجمة للمشاع بينهم تخلص المسألة. والله أعلم.

.باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، واشترط لنفسه مثل ما للمسلمين:

وأوقف أنس بن مالك داراً، فكان إذا قدم نزلها. وتصدّق ابن الزبير بدوره. وقال للمردودة من بناته: أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها. فإن استغنت بزوج فليس لها حق. وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوى الحاجة من آل عبدالله.
وفيه أبو عبد الرحمن: إن عثمان حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئر رومة فله الجنّة». فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: «من جهّز جيش العسرة، فله الجنّة» فجهّزته؟ قال: فصدقوه بما قال. وقال عمر في وقفه: لا جناح على من وليه أن يأكل منه. ويليه الواقف وغيره، فهو واسع لكل.
قلت: رضي الله عنك! ما في حديث الباب بجملته ما يوافق الترجمة إلا وقف أنس خاصة. ووقف عمر- رضي الله عنه- بالطريقة المتقدمة من دخول المخاطب في خطابه.
قلت: ولقد ظهر للفقيه- وفقه الله- بعد إتمام التصنيف مقصود البخاري من بقية حديث الباب فيطابق الترجمة إن شاء الله. فوجه المطابقة لوقف الزبير أن يكون قصد من يلزمه نفقته من بناته كالتي لم تزوج لصغر مثلاً. والتي زوجت ثم طلقّت قبل الدخول، لأن تناول هاتين أو إحداهما من الوقف إنما يحمل عنه الإنفاق الواجب، فقد دخل في الوقف الذي أوقفه بهذا الاعتبار. والله أعلم. ووجه مطابقة الترجمة لقوله: من آل عبدالله يقال: كيف يدخل ابن عمر في وقفه. فيقول: نعم. يدخل لأن الآل يطلق على الرجل نفسه، لأن الحسن البصري كان يقول في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- اللهم صلّ على آل محمد-. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبي أوفى». وقال الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46] أما عثمان- رضي الله عنه- فقوله واضح. والله أعلم.

.باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} إلى قوله: {لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 106- 107]:

فيه ابن عباس: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء.
فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم. فلمّا قدما بتركته، فقدوا جاما من فضّة مخوّصاً من ذهب. فأحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة. فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي. فقام رجلان من أوليائه، فحلفا: لشهادتنا أحق بشهادتهما. وإن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآيات.
قلت: رضي الله عنك! ذكر شارح البخاري أن مذهب ابن عباس قبول شهادة الكفّار على المسلمين في الوصية في السفر. وظن أن ابن عباس احتجّ بحديثه هذا على مذهبه. وهو وهم من الشارح. والله أعلم. فإن شهادة الكافر في الواقعة عبارة عن يمينه ولا خلاف أن يمينه مقبولة، وإذا ادعى عليه فأنكروا ولا بينّة. ولعل تميماً اعترف أن الجام كان ملكاً، وادعى أنه ملكه منه بشراء أو غيره. وفي بعض الحديث التصريح بهذا. ولو لم يصحّ لكان الاحتمال كافياً في إسقاط الاستدلال لأنها واقعة عين.

.كتاب الأحكام:

.باب هل يقضى القاضي أو يفتى وهو غضبان:

فيه أبو بكرة: إنه كتب إلى ابنه- وكان بسجستان- بأن لا تقضى بين اثنين، وأنت غضبان، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقضي حكم بين اثنين، وهو غضبان».
وفيه أبو مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله إني أتأخر عن صلاة الغداة من أجل ما يطيل بنا فلان فيها. فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قطّ أشدّ غضباً في موعظة منه يومئذ، ثم قال: «أيها الناس، إن فيكم منفّرين فأيكم ما صلّى بالناس فليوجز، فإن فيكم الكبير والصغير وذا الحاجة».
وفيه ابن عمر: إنه طلق امرأته- وهي حائض- فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم- فتغيّظ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «فليراجعها، ثم ليمسكها».
قلت: رضي الله عنك! أدخل في ترجمة الباب الحديث الأول، وهو دليل على منع الغضب. وأدخل الحديث الثاني وهو دليل جواز القضاء مع الغضب تنبيهاً منه على الجمع. فأما أن يحمل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوصية به للعصمة، والأمن من التعدي. وأما أن يقال: إن غضب للحق فلا يمنعه ذلك من القضاء مثل غضبه صلى الله عليه وسلم. وإن غضب غضباً معتاداً دنيوياً، فهذا هو المانع- والله أعلم-. كما قيل في شهادة العدّو إنها تقبل إن كانت العداوة دينيّة، وترد إن كانت دنيوية. والله سبحانه وتعالى أعلم.

.باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء:

فيه ابن عمر: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمّر عليهم أسامة بن زيد فطعن في إمارته، فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن هذا لمن أحبّ الناس إليّ بعده».
قلت: رضي الله عنك! لعلّه عنى بقوله:- باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم- وعدل عن قوله: باب عدم الاكتراث للتنبيه على أن الحال تختلف فالمنقول عنه أنه اكترث بالطعن على سعد، وسعد مكانته من الدين مشهورة. ولهذا قال له عمر لما اعتذر، وتبّرأ: ذلك الظن بك يا أبا اسحق!. والفرق بين الحالتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع بحال أسامة، وبسلامة العاقبة، ونجاحها في ولايته فلم يعارض العلم طعن. وأما عمر- رضي الله عنه- فإن حاله الظن، والظن لا يبعد عنه الطعن فعمل بالاحتياط. والله أعلم.

.باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان واحد:

وقال خارجة بن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلّم كتاب اليهود حتى كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقرأه كتبهم إذا كتبوا إليه وقال عمر وعنده عليّ وعبد الرحمن وعثمان-: ماذا تقول هذه؟. قال عبد الرحمن بن حاطب: تخبرك بصاحبها الذي صنع بها. وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس. وقال بعض الناس: لابد للحاكم من مترجمين.
فيه ابن عباس: أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش. ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا فإن كذبني فكذّبوه- فذكر الحديث- فقال للترجمان قل له: إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميّ هاتين.
قلت: رضي الله عنك! وجه الدليل من قصة هرقل، مع أن فعله لا يحتجّ به صوّب من رأيه. وكثيراً مما رآه في هذه القصة صواب موافق للحق. فموضع الدليل تصويب حملة الشريعة لهذا وأمثاله من رأيه، وحسن تفطنه، ومناسبة استدلاله.

.باب بيعة الصغير:

فيه أبو عقيل زهرة بن معبد: عن جدّه عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، بايعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صغير». فمسح رأسه، ودعا له.
قلت: رضي الله عنك! يعني بقوله: باب بيعة الصغير أي عدم انعقادها شرطاً، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يبايعه. فالترجمة موهمة، والحديث يزيل إيهامها.

.باب بيعة النساء:

رواه ابن عباس.
فيه عبادة: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله». الحديث.
وفيه عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {ولا يشركن بالله شيئاً} قالت: وما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة، إلاّ امرأة يملكها.
وفيه أم عطيّة: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ: {على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن} [الممتحنة: 12] ونهانا عن النياحة. الحديث.
قلت: رضي الله عنك! أدخل حديث عبادة في الترجمة على بيعة النساء، فإنها وردت في نصّ الكتاب العزيز في حق النساء، ثم استعملت في حق الرجال، فصارت البيعة معروفه بهن. والله أعلم.

.كتاب الإكراه:

.باب في بيع المكره في الحق وغيره:

فيه أبو هريرة: بينما نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «انطلقوا إلى يهود»، فخرجنا معه جئنا بيت المدارس. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم: «يا معشر يهود! أسلموا تسلموا» فقالوا: فقد بلغت يا أبا القاسم. قال: «ذاك أريد» ثم قالها ثلاثاً. فقال: «اعلموا أنما الأرض لله ولرسوله، وأنّي أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله».
قلت: رضي الله عنك! إن قيل: ترجم على بيع المكره في الحق وغيره ولم يذكر إلا بيع اليهود وأموالهم مكرهين على الجلاء والإكراه بحق لا غير. فما موقع قوله: وغيره.
قلت: يحتمل أن يريد: باب بيع المكره في الدين مثلاً وغيره. والكل حق وذكر الحديث لأنهم أكرهوا على بيع أموالهم، لا لحق عليهم، ولكن كان الإكراه حقاً. فالإكراه على البيع في الحق، ولسبب آخر غير ماليّ سواء في نفوذ البيع، كما نقل عن مالك أن المفسد يلزم بيع داره لحق جاره في إبعاده عنه على تفصيل عند الفقهاء.

.باب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها:

لقوله تعالى: {ومن يكرههن فإنّ الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيم} [النور: 33]. وقال الليث: حدثنا نافع أن صفية بنت أبى عبيدة أخبرته أن عبداً من رقيق الإمارة وقع على وليدة من الخمس. فاستكرهها حتى اقتضّها، فجلده عمر الحدّ، ونفاه، ولم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها. وقال الزهري في الأمة البكر يفترعها الحر: يقيم ذلك الحكم من الأمة العذراء بقدر ثمنها ويجلد. وليس في الثيّب في قضاء الأئمة غرم، ولكن عليه الحد.
فيه أبو هريرة: هاجر إبراهيم بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك- أو جبّار من الجبابرة- فأرسل إليه أن أرسل بها إليّ. فأرسل بها. فقام إليها. فقامت توضأ وتصليّ. فقالت: اللهم إنيّ كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلّط على الكافر. فغطّ حتى ضرب برجله.
قلت: رضي الله عنك! إدخال حديث سارة في الترجمة غير حسن، ولا مطابق إلا من جهة الملامة عنها في الخلوة لكونها كانت مكرهة على ذلك وظهور الكرامة في إجابة الدعوة. ولم يكن من الأدب الحسن إدخال الحديث في الترجمة بالجملة. والله الموفق.

.كتاب الحيل:

.باب ترك الحيل والأعمال بالنيات، وإن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيره:

فيه عمر: يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قلت: رضي الله عنك! أدخل الترك في الترجمة حذراً من إيهام إجازة الحيل، وهو شديد على من أجازها، فتجرى في الترجمة خلاف إطلاقه في قوله: باب بيعة الصغير، وإن كان صلى الله عليه وسلم لم يبايعه كما تقدّم آنفاً. ولكن لا تدخل بيعته الإنكار كالحيل، ولهذا عوضه عن البيعة أن دعا له، ومسح رأسه والله أعلم.

.باب في الصلاة:

فيه أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ».
قلت: رضي الله عنك! إن قلت ما موقعها؟.
قلت: عدّ قول أبي حنيفة أن المحدث عمداً في أثناء الجلوس الأخير كالمسلم، من التحيّل لتصحيح الصلاة مع الحدث، لأن البخاري- رحمه الله- بنى على أن التحلّل من الصلاة ركن منها، فلا يقبل مع الحدث. والذي قبله بنى على أن التحلّل ضدها، لا ركنها، فتحيّل لقبوله بهذا الرأي.